عُقدت قمة أردنية – روسية في 23 أغسطس الجاري بالعاصمة الروسية، موسكو، طُرحت خلالها عدة ملفات، مرتبطة بلبنان وفلسطين، بينما تصدر أزمة الجنوب السوري صدارة الاهتمام بين الجانبين. وسبق هذه القمة عدة تحركات أردنية، يعتقد أنها تشكل بداية لتغيير ما في السياسة الأردنية تجاه سوريا، وتجاه الوضع الإقليمي بشكل عام.
دواعي التحرك الأردني
يمكن إرجاع التحرك الأردني النشط لمناقشة الملف السوري مع روسيا إلى عدة اعتبارات يمكن تفصيلها على النحو التالي:
1- عدم التزام روسيا بإبعاد إيران: كانت الأردن من الدول الضامنة لاتفاق التسوية الموقع بين الحكومة السورية وفصائل درعا المسلحة في عام 2018، والذي تضمن ضمن بنوده الأخرى بنداً رئيسياً ينص على أن تضمن روسيا إبعاد إيران عن الحدود الأردنية والإسرائيلية بمسافة 80 كم، وكان هذا المطلب محل توافق مشترك بين ثلاث دول هي الولايات المتحدة وإسرائيل والأردن.
ونجحت إيران، في الفترة الأخيرة، وربما بتجاهل من موسكو، في الإفلات من التوافقات سابقة الذكر، ولذلك زاد التهديد الإيراني لكل من الإسرائيل والأردن. وفي ضوء ذلك، قامت إسرائيل، في 18 أغسطس، بتوجيه ضربة لمنطقة الجنوب السوري، واستهداف أحد قادة حزب الله اللبناني في القنيطرة، بينما كشف العاهل الأردني، الملك عبدالله الثاني، في 25 يوليو الماضي، عن تعرض الأردن لهجوم بطائرات مسيرة إيرانية الصنع. ولا شك أن زيارة الملك عبدالله الثاني إلى موسكو كانت بهدف إعادة إحياء هذه التفاهمات من جديد.
2- التفاهم مع موسكو حول مصير درعا: حشد الجيش السوري قواته بالقرب من درعا في محاولة لاستعادة السيطرة عليها. واقترحت موسكو تسوية جديدة على مسلحي المعارضة داخل درعا، للتخلي عن أسلحتهم والبقاء في المدينة، أو الانتقال بأسلحتهم إلى مناطق سيطرة المعارضة المسلحة في شمال سوريا.
ولا شك أن عمان حريصة على التأكد من أن التفاهمات الجديدة لن تكون لها أي انعكاسات سلبية عليها، تخشى الأردن من أن يؤدي تدهور الموقف العسكري في درعا إلى حدوث موجة نزوح جديدة من أهالي درعا باتجاه الأردن، مما سيشكل مزيداً من العبء على الاقتصاد الأردني، الذي يعاني منذ فترة، ولا يزال، تداعيات جائحة كورونا.
كما تخشى الأردن من استغلال إيران أحداث درعا، لتقوم بزيادة انتشار الميليشيات المدعومة منها على مقربة من حدود المملكة مع سوريا، وبالتالي تزايد فرص التهديد الإيرانية للأمن الأردني، والتحكم بشكل غير مباشر في مسار الحركة التجارية بين الأردن وسوريا عبر معبر جابر – نصيب، والذي تعتبره الأردن شريان حياة رئيسي للاقتصاد الأردني، وتعول عليه بصورة كبيرة في دفع نمو الاقتصاد الأردني نحو مستويات أفضل.
علاوة على تخوف الدوائر العسكرية الأردنية من اندلاع مواجهات بين إسرائيل والوجود الإيراني في الجنوب السوري، سواء بالطائرات المُسيرة أو باستخدام الصواريخ، وهو ما يشكل تهديداً كبيراً لشمال الأردن، قد تضطر معه الأردن لإبقاء قواتها في حالة تأهب مستمر، وهو ما لا تريد الأردن الانجرار إليه على المدى المتوسط والطويل.
3- فتح وتأمين المعابر الحدودية مع سوريا: ترغب الأردن في تنشيط قنوات التبادل التجاري مع سوريا، بما يضمن بقاء معبر جابر – نصيب الحدودي بين البلدين، مفتوحاً على الدوام، وأن تكون كل الطرق التجارية التي تخدم هذا المعبر داخل سوريا مؤمنة بشكل كامل، سواء من جانب الحكومة السورية، أو من جانب روسيا.
ويعتبر المعبر هو شريان حياة مهم للأردنيين، خاصة للعاملين في قطاع التجزئة والنقل البري وغيرها، علاوة على أن سوريا هي نقطة عبور مهمة للمنتجات التركية واللبنانية إلى الأردن ودول الخليج في الاتجاهين.
4- تراجع الدور الأمريكي في جنوب سوريا: انتقلت الاستراتيجية الأمريكية والأوروبية تجاه سوريا من سياسة تغيير الحكومة السورية بالقوة، إلى القبول بها كأمر واقع، مع محاولة ممارسة الضغوط على الرئيس السوري بشار الأسد لتغيير بعض سياساته الإقليمية، والضغط عليه لمراجعة علاقاته مع إيران.
كما تدرك الأردن جيداً أن واشنطن لم تعد تمتلك أوراق ضغط كثيرة على دمشق، وأن روسيا باتت تمتلك العديد من أدوات التأثير على الحكومة السورية، اقتصادياً وعسكرياً، ولذلك سعت عمّان للتواصل معها للتوصل لتفاهمات حول سوريا، خاصة أن الأردن من بين الدول العربية الداعمة لمسألة تحسين العلاقات مع دمشق، واستعادة سوريا لمقعدها في الجامعة العربية، وهو ما يلاقي قبولاً ودعماً من موسكو.
انعكاسات القمة الثنائية
يتضح من اللقاء الذي عقد بين بوتين والملك عبدالله أنه كان ناجحاً، إذ اتخذت روسيا بعض الخطوات التي طمأنت الجانب الأردني، في حين تم التوصل لتوافقات يمكن أن تكون لها تداعيات إيجابية مستقبلاً، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:
1- منع روسيا اندلاع حرب في درعا: يلاحظ أن الفيلق الخامس التابع لقاعدة حميميم الروسية دخل إلى درعا، يوم 24 أغسطس، غداة قمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني في 23 أغسطس، والتي تناولت الوضع في جنوب سوريا. وقد أكد الملك عبدالله خلالها وجود تقارب أردني – روسي، مضيفاً أن العلاقات الثنائية في تحسن مستمر، وهو ما يؤشر على أن التحرك العسكري الروسي جاء بعد تفاهمات روسية – أردنية، لتستوعب الهواجس الأردنية التي سبقت الإشارة إليها.
2- تطبيع كامل للعلاقات الأردنية – السورية: كشفت وكالة تاس الروسية عن مقترح جديد قدمه الرئيس الروسي لملك الأردن خلال القمة التي جمعتهما بشأن الملف السوري، يقضي بإعادة تطبيع العلاقات بين الأردن وسوريا بشكل كامل، وعدم قصرها فقط على الجانب الاقتصادي والأمني، والتنسيق المشترك بين البلدين بشأن عمل معبر جابر – نصيب الحدودي.
وتسعى الأردن، في الآونة الأخيرة، إلى تخفيف العقوبات الأمريكية على سوريا، وقد وضح ذلك خلال قمة الملك عبدالله مع الرئيس الأمريكي في يوليو الماضي، حيث طلبت الأردن إطلاق بعض الاستثناءات المتعلقة بقانون قيصر، بما يسمح بعودة الحركة التجارية بين سوريا والأردن ودول أخرى، غير أن بايدن لم يقدم تأييداً كاملاً لهذا المقترح، على اعتبار أنه يحتاج لموافقة من الكونجرس الأمريكي.
كما تتحرك الأردن بهدف التوصل لتوافق مع الولايات المتحدة وإسرائيل ودول الاتحاد الأوروبي من أجل إعطاء روسيا بعض المكاسب الاقتصادية، من قبيل دعم إعادة إعمار سوريا، مقابل تعاون الكرملين في ضبط الميليشيات الإيرانية في سوريا.
3- دعم الدور الإنساني للأردن في الجنوب السوري: تريد موسكو أن تستمر الأردن في التزامها الخاص بتخفيف الوضع الإنساني في سوريا، بشكل عام، وفي الجنوب السوري، على نحو خاص، من حيث استمرار فتح معبر جابر – نصيب، أمام حركة التجارة بين سوريا والأردن ودول الخليج، علاوة على تسهيلات العبور للأفراد عبر المعبر، بما يسمح بدخول المساعدات الإنسانية، خاصة أن الملك عبدالله الثاني كان قد طلب من الإدارة الأمريكية خلال زيارته الأخيرة إلى واشنطن، تقديم استثناءات من القيود التي يفرضها قانون قيصر لأهداف إنسانية.
وفي التقدير، فإن هذه التحركات الأردنية المكثفة والمتتالية في الملف السوري تستهدف إعادة تموضع استراتيجي للأردن في الملف السوري، بشكل يسمح للأردن بلعب دور جديد في التسوية السياسية للصراع السوري، فضلاً عن المساهمة في عودة سوريا للجامعة العربية، ومواجهة النفوذ الإيراني في سوريا، كما تتزامن هذه التحركات مع سعي أردني لتخفيف الضغط الاقتصادي عن سوريا، بما يسمح للأردن بالاستفادة من عودة الحركة التجارية مع سوريا عبر المعبر الحدودي المشترك.